صار الكلمة جسدًا، فصار الحرف روحًا

 

يذكر القرآن الكريم المسيحيّين (واليهود أيضًا) على أنّهم «أهل كتاب» ﴿أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ (سورة الأنعام ١٥٦). وفي مصر، يتعامل الكثير من رجال الدين المسيحيّ – ومن ثمّ، قطاعات واسعة من المسيحيّين – مع هذه الصفة كأنّها توصيفٌ جوهريّ لهويّتهم، فيقرؤون الكتاب المقدّس بمنهج يقترب كثيرًا من طريقة المسلمين في قراءة القرآن الكريم، أي ككلام إلهي ثابت، منزّه، مكتفٍ بذاته، ومغلق على تفسيرٍ رمزيّ أو شخصانيّ. الرؤية الإسلاميّة لها كلّ احترامها بما أنّها خاصّة بالإسلام. المشكلة تكمن في تطبيق هذه الرؤية داخل المسيحية من خلال بعض المسيحيّين، فبذلك، تنزاح القراءة المسيحية شيئًا فشيئًا من لاهوت التجسّد إلى لاهوت الحرف، من حدث الكلمة إلى سكون النص، ومن شخص يسوع إلى سلطة الكتاب.
تتحوّل علاقة المسيحيّين بالكتاب المقدّس إلى قراءةٍ حرفيّة يطغى فيها النصّ المكتوب على الحدث المتجسِّد، ويتمسّكون بحرف النصّ أكثر من التطلّع إلى المسيح بوصفه محورَ الكتاب وروحه.
فبدلًا من قراءة النصّ في ضوء يسوع المسيح، يُقرأ يسوع في ضوء النصّ، كأنّ النصّ هو الأصل والمسيح هو مجرّد شارح. بهذا المعنى، تصير المسيحيّة – عمليًا – "دين كتاب"، بينما هي في عمقها "لاهوت التجسّد"، لا لاهوت نصوص.

المفارقة اللاهوتيّة هنا لافتة: المسيحية لا تقوم على "وحي مكتوب" نزل من السماء، بل على "كلمة أُعلنت" في التاريخ من خلال جسد شخص، أي يسوع الناصري. فالكلمة في المسيحية لم "تُنزل" بل "تجسّدت"، وهذا الحدث يؤسّس لفهم كلّ نصّ، لا العكس.

لكن، في ظلّ السياق الإسلامي الغالب المؤثر علي كثيرٍ من المسيحيّين، حيث يحتلّ النصّ (القرآن) المكانة المحوريّة، يتحوّل كثير من المسيحيّين الناطقين بالعربيّة إلى نوع من "التماثل الدفاعي" مع النموذج القرآني، فيخضعون كتابهم لمقارنة مستمرّة مع القرآن، من حيث الحفظ، والبحث عن البلاغة، وتقديس النصّ الحرفيّ، والإعجاز، والتشريع، متناسين أن المقارنة غير متكافئة من الأصل، لأن النصّ في المسيحية ليس "شريعة منزلة"، بل شهادة على حدث تاريخي وشخص حيّ.
وهكذا، تقع القراءة المسيحية في فخّ "أسلمة التأويل"، حيث يُنظر إلى المسيح كأنّه "نبيّ سابق لكتاب"، وليس "كلمة الله" التي بها نقرأ كلّ الكتب.

الكلمة "صار جسدًا" (يو ١: ١٤)، فالمسيحيّة لا تبدأ من كتابٍ، بل من شخص. وإذا صار الكلمة جسدًا، فمعناه أنّ الحرف صار نافذًا بالروح، وأنّ النص لا يُفهم إلا في ضوء اللقاء الشخصيّ مع المسيح، من خلال خبرة الكنيسة الجامعة. أمّا حين ينفصل النصّ عن هذا اللقاء، فيتحوّل إلى صنمٍ جديد، أو إلى قانون بلا حياة.

وعليه، فليست المشكلة أنّ المسيحيين "أهل كتاب"، بل أنّهم حين يتعاملون مع الكتاب بوصفه "غاية في ذاته"، يغيب عنهم جوهر إيمانهم بأنّ المسيح أهمّ من الكتاب، وأنّ يسوع لا يُفسَّر بالنص، بل النصّ يُفهم من خلاله. فبينما في الإسلام، يحتلّ النصّ موقع الصدارة بوصفه "الوحي الكامل"، فإن المسيحيّة ترى في يسوع نفسه "كلمة الله" وهو كمال الوحي، وليس النصّ!

الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
 

چون جبرائيل الدومنيكي

چون جبرائيل الدومنيكي

صدر للكاتب: كتاب نقدي: اللاهوت السياسي، هل من روحانية سياسية؟ تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: لاهوت التحرير، التاريخ والسياسة والخلاص تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية تعريب كتاب البابا فرانسيس: أسرار الكنيسة ومواهب الروح القدس

شارك: